فصل: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ أَوْلَوِيَّةَ أُولِي الْأَرْحَامِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ هُوَ تَفْضِيلٌ لِوِلَايَتِهِمْ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهَا مِنْ وِلَايَةِ الْإِيمَانِ وَوِلَايَةِ الْهِجْرَةِ فِي عَهْدِهَا، وَلَكِنْ فِي ضَمَانِ دَائِرَتِهِمَا، فَالْقَرِيبُ أَوْلَى بِقَرِيبِهِ ذِي رَحِمِهِ الْمُؤْمِنَ الْمُهَاجَرِيِّ وَالْأَنْصَارِيِّ مِنَ الْمُؤْمِنَ الْأَجْنَبِيِّ، وَأَمَّا قَرِيبُهُ الْكَافِرُ فَإِنْ كَانَ مُحَارِبًا لِلْمُؤْمِنِينَ فَالْكُفْرُ مَعَ الْقِتَالِ يَقْطَعَانِ لَهُ حُقُوقَ الرَّحِمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [60: 1] الْآيَاتِ، وَإِنْ كَانَ مُعَاهِدًا أَوْ ذِمِّيًّا فَلَهُ مِنْ حَقِّ الْبِرِّ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ. قَالَ تَعَالَى فِي الْوَالِدَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [31: 15] ثُمَّ قَالَ فِي الْكُفَّارِ عَامَّةً: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [60: 8] فَالْبِرُّ وَالْعَدْلُ مَشْرُوعَانِ عَامَّانِ فِي حُدُودِ الشَّرْعِ، وَمَحِلُّ تَفْصِيلِ هَذَا الْبَحْثِ تَفْسِيرُ سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ.
ثُمَّ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فَهُوَ تَذْيِيلٌ اسْتِئْنَافِيٌّ لِأَحْكَامِ هَذَا السِّيَاقِ الْأَخِيرِ بَلْ لِجَمِيعِ أَحْكَامِ السُّورَةِ وَحِكَمِهَا، مُبَيِّنٌ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ لَا وَجْهَ لِنَسْخِهَا وَلَا نَقْضِهَا، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى شَرَعَ لَكُمْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ فِي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ وَالْعُهُودِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَمَا قَبْلَهَا مِمَّا سَبَقَ مِنْ أَحْكَامِ الْقِتَالِ وَالْغَنَائِمِ، وَقَوَاعِدِ التَّشْرِيعِ، وَسُنَنِ التَّكْوِينِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَأُصُولِ الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَنْفُسِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، عَنْ عِلْمٍ وَاسِعٍ مُحِيطٍ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ مَصَالِحِكُمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ. كَمَا قَالَ فِي السُّورَةِ السَّابِقَةِ لِهَذِهِ: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} [7: 52] الْآيَةَ.
فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى فِي خَاتِمَةِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنْ يَزِيدَنَا عِلْمًا وَفِقْهًا بِأَحْكَامِ كِتَابِهِ وَحِكَمِهِ، وَأَنْ يَزِيدَنَا هِدَايَةً بِعُلُومِهِ وَآدَابِهِ، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِهِ عَلَى مَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، وَأَرْسَلَهُ بِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

.خُلَاصَةُ سُورَةِ الْأَنْفَالِ:

أَيْ مَا فِيهَا مِنَ الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ، وَالسُّنَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَقَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْعَمَلِيَّةِ، مِنْ سِيَاسِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ، وَنُجْمِلُ ذَلِكَ فِي سَبْعَةِ أَبْوَابٍ قَدْ يَدْخُلُ بَعْضُ أُصُولِهَا وَمَسَائِلِهَا فِي بَعْضٍ فَيُذَكَرُ فِي كُلِّ بَابٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ.

.مُقَدِّمَةٌ لِلتَّنْبِيهِ وَالتَّذْكِيرِ:

يَنْبَغِي أَنْ يَتَذَكَّرَ الْقَارِئُ أَنْ جُلَّ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ فِي أُصُولِ الْإِيمَانِ الِاعْتِقَادِيَّةِ مِنَ الْإِلَهِيَّاتِ وَالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ وَقَصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ. وَيَلِي ذَلِكَ فِيهَا أُصُولُ التَّشْرِيعِ الْإِجْمَالِيَّةُ الْعَامَّةُ، وَالْآدَابُ وَالْفَضَائِلُ الثَّابِتَةُ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي خُلَاصَةِ كُلٍّ مِنْ سُورَتَيِ الْأَنْعَامِ، وَالْأَعْرَافِ، وَيَتَخَلَّلُ هَذَا وَذَاكَ مُحَاجَّةُ الْمُشْرِكِينَ وَدَعْوَتُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِتِلْكَ الْأُصُولِ وَدَحْضُ شُبُهَاتِهِمْ، وَإِبْطَالُ ضَلَالَتِهِمْ، وَتَشْوِيهُ خُرَافَاتِهِمْ.
وَأَمَّا السُّوَرُ الْمَدَنِيَّةُ فَتَكْثُرُ فِيهَا قَوَاعِدُ الشَّرْعِ التَّفْصِيلِيَّةُ، وَأَحْكَامُ الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةُ، بَدَلًا مِنْ أُصُولِ الْعَقَائِدِ الْإِيمَانِيَّةِ، وَقَوَاعِدِ التَّشْرِيعِ الْعَامَّةِ الْمُجْمَلَةِ، كَمَا تَكْثُرُ فِي بَعْضِهَا مُحَاجَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبَيَانُ مَا ضَلُّوا فِيهِ عَنْ هِدَايَةِ كُتُبِهِمْ وَرُسُلِهِمْ، وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِخَاتَمِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- وَفِي بَعْضِهَا بَيَانُ ضَلَالَةِ الْمُنَافِقِينَ وَمَفَاسِدِهِمْ كَمَا يَرَى الْقَارِئُ لِلسُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ الطُّوَالِ الْأَرْبَعِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَكُلٌّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ يُقَابِلُ مَا فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ مِنْ بَيَانِ بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَغَوَايَةِ أَهْلِهِ.
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ تَكْثُرُ مُحَاجَّةُ الْيَهُودِ، وَفِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ تَكْثُرُ مُحَاجَّةُ النَّصَارَى، وَفِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ تَكْثُرُ مُحَاجَّةُ الْفَرِيقَيْنِ، وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ تَكْثُرُ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُنَافِقِينَ، وَيَلِيهَا فِي فَضَائِحِ الْمُنَافِقِينَ سُورَةُ التَّوْبَةِ الْآتِيَةُ. وَتَكْثُرُ فِي هَذِهِ السُّوَرِ الثَّلَاثِ أَحْكَامُ الْقِتَالِ، كَمَا تَكْثُرُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (سُورَةِ الْأَنْفَالِ).

.الْبَابُ الأول: فِي صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَشُئُونِهِ فِي خَلْقِهِ وَحُقُوقِهِ وَحُكْمِهِ فِي عِبَادِهِ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ فَصُولٍ:

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ:

الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ:
فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ: الْعَلِيُّ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَالْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، وَالسَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَالْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَالْمَوْلَى وَالنَّصِيرُ، وَالْبَصِيرُ، وَالْقَدِيرُ، وَالْعَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ، وَخُتِمَتِ السُّورَةُ بِقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وَكُلُّ اسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَغَيْرِهَا يُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ مُفْرَدًا أَوْ مُقْتَرِنًا بِغَيْرِهِ فِي الْمَكَانِ الْمُنَاسِبِ لِلْمَوْضُوعِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ وَيُفَسَّرُ فِي مَوْضِعِهِ، وَمُفَسِّرُوا الْمَذَاهِبِ الْكَلَامِيَّةِ وَغَيْرِهَا يَتَأَوَّلُونَ بَعْضَهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ مِنْ تَأْوِيلِهِمْ لِصِفَةِ الرَّحْمَةِ، وَبَيَّنَّا فِيهِ وَفِي مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي إِمْرَارِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، كَمَا وَرَدَتْ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ تَأْوِيلٍ لَهَا يُخْرِجُهَا عَنِ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادَرِ مِنَ السِّيَاقِ مَعَ الْجَزْمِ بِتَنْزِيهِهِ تَعَالَى فِيهَا عَنْ شِبْهِ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَمَا لِلْخَلَفِ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي حَمَلَهُمْ عَلَيْهَا مُحَاوَلَةُ التَّقَصِّي مِنَ التَّشْبِيهِ، وَتَحْقِيقُ الْحَقِّ فِي كُلِّ مَقَامٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ مَعَ الْجَمْعِ بَيْنَ إِثْبَاتِ النُّصُوصِ وَالتَّنْزِيهِ. وَقَدْ تُذْكَرُ بَعْضُ التَّأْوِيلَاتِ لِلضَّرُورَةِ.
الْمَعِيَّةُ الْإِلَهِيَّةُ وَالْعِنْدِيَّةُ:
مِمَّا تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِثْبَاتُ إِضَافَةِ الْمَعِيَّةِ إِلَيْهِ تَعَالَى، أَيْ كَوْنُهُ مَعَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ- وَهِيَ مِمَّا وَرَدَ تَأْوِيلُهُ عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ مُتَكَلِّمُوا الْخَلَفِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَا كَمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ تَحْقِيقَ قَاعِدَةِ السَّلَفِ فِيهَا وَتَرَاهَا فِي آيَاتٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ- أَوَّلِهَا- {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [8: 12] أَيْ: إِنِّي أُعِينُكُمْ عَلَى تَنْفِيذِ مَا آمُرُكُمْ بِهِ مِنْ تَثْبِيتِهِمْ عَلَى قُلُوبِهِمْ، حَتَّى لَا يَفِرُّوا مِنْ أَعْدَائِهِمْ عَلَى كَوْنِهِمْ يَفُوقُونَهُمْ عَدَدًا وَعُدَدًا وَمَدَدًا- إِعَانَةَ حَاضِرٍ مَعَكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ وَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ مِنْ إِعَانَتِكُمْ، وَالْوَعْدُ بِالْإِعَانَةِ وَحْدُهُ لَا يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى كُلَّهُ، فَفِي الْمَعِيَّةِ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ الْإِعَانَةِ نَعْقِلُ مِنْهُ مَا ذَكَرَ وَلَا نَعْقِلُ كُنْهَهُ وَصِفَتَهُ.
وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي بَيَانِ أَنَّ كَثْرَةَ الْعَدَدِ وَحْدَهَا لَا تَقْتَضِي النَّصْرَ فِي الْحَرْبِ بَلْ هُنَالِكَ قُوَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ إِلَهِيَّةٌ قَدْ يَنْصُرُ بِهَا الْفِئَةَ الْقَلِيلَةَ عَلَى الْكَثِيرَةِ: {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [19] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ بَعْدَ الْأَمْرِ بِأَسْبَابِ النَّصْرِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَالثَّبَاتِ فِي الْقِتَالِ وَذِكْرِهِ وَطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّنَازُعِ: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [46] وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ بَعْدَ جَعْلِ الْمُؤْمِنِينَ حَقِيقِينَ بِالنَّصْرِ عَلَى عَشْرَةِ أَضْعَافِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي حَالِ الْقُوَّةِ وَالْعَزِيمَةِ، وَعَلَى مِثْلَيْهِمْ فِي حَالِ الضَّعْفِ وَالرُّخْصَةِ بِشُرُوطِهِ: {وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [66] وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ يُعَبَّرُ عَنْهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ بِمَعِيَّةِ النَّصْرِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَا تُسَمَّى بِهِ فِي مَقَامَاتٍ أُخْرَى مِنَ الصَّبْرِ فِي غَيْرِ الْقِتَالِ يُطْلَبُ كُلٌّ مِنْهَا فِي مَحِلِّهِ.
وَيُنَاسِبُ الْمَعِيَّةَ مَا وَرَدَ فِي الْعِنْدِيَّةِ كَقوله تعالى: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [4] وَهِيَ: إِمَّا عِنْدِيَّةُ مَكَانٍ. كَهَذِهِ الْآيَةِ وَالْمُرَادُ بِالْمَكَانِ هُنَا الْجَنَّةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ: {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [66: 11] وَإِضَافَتُهُ إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى لِلتَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، وَإِمَّا عِنْدِيَّةُ تَدْبِيرٍ وَتَصَرُّفٍ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ} وَإِمَّا عِنْدِيَّةُ حُكْمٍ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْإِفْكِ مِنْ سُورَةِ النُّورِ: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [24: 13] أَيْ فِي حُكْمِ شَرْعِهِ.
وِلَايَتُهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ: وَهِيَ بِمَعْنَى مَعِيَّتِهِ لَهُمْ. قَالَ: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)} فَتُسَمَّى هَنَا وِلَايَةَ النُّصْرَةَ وَهِيَ أَعَمُّ. وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ فِي تَفْسِيرِ {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [1: 257]

.الْفَصْلُ الثاني: فِي أَفْعَالِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِي عِبَادِهِ وَتَدْبِيرِهِ لِأُمُورِ الْبَشَرِ وَفِي تَشْرِيعِهِ لَهُمْ:

تَصَرُّفُهُ فِي عِبَادِهِ:
يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَفْعَالُهُ الَّتِي لَا كَسْبَ لِلنَّاسِ فِيهَا، وَتَصَرُّفُهُ فِيهِمْ بِالْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ وَالْمُقَدِّمَاتِ وَالنَّتَائِجِ وَإِرَادَتِهِ فِي تَسْخِيرِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [7، 8] إِلَى آخِرِهِ {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ (10) وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ (12) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [17- 19]، {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ (23)} {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ (24)} {فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)} {إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا (29)} {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} {لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ (37)} {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا (43)} الْآيَةَ- {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ (44)} الْآيَةَ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (53)} {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنِ قُلُوبِهِمْ} [62، 63] إِلَخْ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ كُلِّ آيَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا لِلْعَبْدِ مِمَّا أُسْنِدَ إِلَيْهِ، وَمَا لِلرَّبِّ مِمَّا أُسْنِدَ إِلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا فِي بَعْضِهَا مِنْ شُبْهَةٍ يُحْتَجُّ بِهَا عَلَى عَقِيدَةِ الْجَبْرِ وَوَجْهَ إِبْطَالِهَا بِمَا لَا يَجِدُ الْقَارِئُ لَهُ نَظِيرًا فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَشُرُوحِ الْأَحَادِيثِ، وَلَا فِي كُتُبِ الْكَلَامِ فِيمَا رَأَيْنَاهُ مِنْهَا وَمَا يُقَاسُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْثَالِهَا.
التَّشْرِيعُ الدِّينِيُّ:
هُوَ حَقُّهُ وَمُقْتَضَى رُبُوبِيَّتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَفِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا هُوَ حَقُّ اللهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الَّذِي لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ تَنْفِيذُ الْحُكْمِ وَقِسْمَةُ الْغَنَائِمِ، وَدَلِيلُهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَيَّنَ حُكْمَهَا فِي قَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ (41)} إِلَخْ. وَتَفْسِيرُهُ فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ الْعَاشِرِ، وَمَا وَرَدَ مِنْ مُؤَاخَذَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَخْذِ الْفِدْيَةِ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ قَبْلَ إِذَنِ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ بِذَلِكَ فِي قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى (67)} إِلَخْ. مَعَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَخَازِنٌ وَاللهُ يُعْطِي وَفِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ لِلْبُخَارِيِّ وَاللهُ الْمُعْطِي وَأَنَا الْقَاسِمُ وَقِسْمَتُهُ صلى الله عليه وسلم لِلْغَنَائِمِ مُفَوَّضَةٌ إِلَى اجْتِهَادِهِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى مَعَ فَرْضِ الْعَدْلِ عَلَيْهِ. فَالتَّشْرِيعُ الدِّينِيُّ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ فِيهَا هُوَ حَقُّ الْخَمْسِ وَقَدْ بَيَّنَّا تَفْصِيلَهُ فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ الْعَاشِرِ. وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ الْحَرْبِ فَهُوَ اجْتِهَادِيٌّ يَقْسِمُهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ بِمُشَاوَرَةِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، عَلَى وَفْقِ الْمَصْلَحَةِ وَأَسَاسِ الْعَدْلِ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رضي الله عنه فِي تَدْوِينِ الدَّوَاوِينِ.

.الْفَصْلُ الثالث: فِي تَعْلِيلِ أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ تَعَالَى بِمَصَالِحِ الْخَلْقِ:

وَرَدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ تَعْلِيلُ وَعْدِهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ: {وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [7، 8]. وَتَعْلِيلُهُ وَعْدَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِإِمْدَادِهِ إِيَّاهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ (10)}
وَتَعْلِيلُهُ تَغْشِيَتَهُمُ النُّعَاسَ، وَإِنْزَالَ الْمَطَرِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ (11)} إِلَخْ.
وَتَعْلِيلُهُ تَمْكِينَهُمْ مِنْ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ وَإِيصَالَهُ تَعَالَى مَا رَمَى بِهِ الرَّسُولُ الْكَافِرِينَ إِلَى أَعْيُنِهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} إِلَى قَوْلِهِ: {مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [17 و18]
وَتَعْلِيلُهُ مَا كَتَبَهُ مِنَ النَّصْرِ لِأَتْبَاعِ الرُّسُلِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ وَالْخِذْلَانِ لِأَعْدَائِهِمُ الْكَافِرِينَ بِقَوْلِهِ: {لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ (37)} الْآيَةَ.
وَتَعْلِيلُهُ لِمَا قَدَّرَهُ وَأَنْفَذَهُ مِنْ لِقَائِهِمُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ بِقَوْلِهِ: {وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ (42)} ثُمَّ تَعْلِيلُهُ لِإِرَاءَتِهِ تَعَالَى رَسُولَهُ الْمُشْرِكِينَ فِي مَنَامِهِ قَلِيلًا بِقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ (43)}
ثُمَّ تَعْلِيلُهُ لِإِرَاءَتِهِ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الْتِقَائِهِمْ بِالْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ قَلِيلٌ، وَتَقْلِيلُهُ إِيَّاهُمْ فِي أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ: {لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا (44)}
ثُمَّ تَعْلِيلُهُ لِمُؤَاخَذَةِ قُرَيْشٍ عَلَى كُفْرِهَا لِنِعَمِهِ بِبَيَانِ سُنَّتِهِ الْعَامَّةِ فِي أَمْثَالِهِمْ وَهِيَ قَوْلُهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (53)} وَكَذَا تَعْلِيلُهُ لِمَا أَوْجَبَهُ مِنْ وِلَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي النُّصْرَةِ فِي مُقَابَلَةِ وِلَايَةِ الْكَافِرِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)}.